ارحموا أبناء غيركم أيها المعنفون: أبناؤنا والعنف الأسري

في عمق المجتمعات العربية، كما في غيرها من المجتمعات الإنسانية، يشكل الطفل اللبنة الأولى في بناء المستقبل، والنواة التي تتشكل فيها شخصية الإنسان ووعيه بالعالم وبذاته. غير أن هذه اللبنة كثيرًا ما تُصاب بالتشويه والتصدع في بيئات يفترض أن تكون ملاذاً آمناً لها: الأسرة. فالعنف الأسري، الذي يطول آلاف الأطفال يومياً في منازلهم، لا يترك ندوباً جسدية فقط، بل يزرع جراحاً نفسية عميقة قد لا تندمل مدى الحياة.

العنف الأسري ضد الأطفال ليس مجرد انحراف سلوكي أو انفلات انفعالي عابر من أحد الأبوين أو أفراد العائلة، بل هو سلوك ممنهج في كثير من الأحيان، يتم تبريره بالأعراف أو التقاليد أو حتى الدين، ويُمارس بغطاء من الخصوصية العائلية التي تُمنع بموجبها الجهات القانونية والاجتماعية من التدخل. هذه الممارسات لا تنتهك حقوق الطفل فحسب، بل تُهدد البناء النفسي والاجتماعي للمجتمع بأسره.

أولاً: تعريف العنف الأسري ضد الأطفال

العنف الأسري ضد الأطفال هو أي سلوك صادر من أحد الوالدين أو من يتولّى مسؤولية رعاية الطفل، يُلحق ضرراً جسدياً، نفسياً، أو اجتماعياً بالطفل. ويمكن أن يأخذ هذا العنف صوراً متعددة تشمل:

• العنف الجسدي: كالضرب، الحرق، الخنق، أو استخدام أدوات مؤذية.

• العنف النفسي: كالإهانة، التخويف، التهديد، العزل، التحقير، أو التلاعب العاطفي.

• العنف اللفظي: كالصراخ المستمر، الشتائم، أو المقارنة المحبطة بين الطفل وأقرانه.

• الإهمال: مثل ترك الطفل دون رعاية، حرمانه من التعليم، الغذاء، أو الرعاية الطبية الأساسية.

كل هذه الأشكال، وإن اختلفت في شدتها وعلنيتها، فإن لها تأثيرات عميقة على نمو الطفل وسلوكه ومكانته المستقبلية في المجتمع.

ثانياً: أسباب العنف الأسري تجاه الأطفال

من الخطأ اختزال العنف الأسري في لحظة غضب أو خطأ فردي، إذ إنه غالباً ما يكون نتيجة لتشابك عدة عوامل نفسية، اجتماعية، اقتصادية وثقافية، منها:

1. الفقر والضغوط الاقتصادية: يؤدي الضيق المالي إلى خلق بيئة متوترة تفتقر إلى التوازن، ما يجعل الأطفال عرضة لكونهم ضحية “تنفيس” التوتر من قبل الأهل.

2. الجهل التربوي: غياب المعرفة بأساليب التربية الإيجابية يدفع الكثير من الآباء إلى استخدام العنف كوسيلة لضبط السلوك.

3. التنشئة العنيفة: كثير من الأهل يمارسون ما تعرضوا له في طفولتهم دون وعي، باعتبار أن ذلك هو “الأسلوب الصحيح”.

4. الاضطرابات النفسية والإدمان: يلعب المرض النفسي أو الإدمان على الكحول أو المخدرات دوراً كبيراً في زيادة احتمالية ممارسة العنف ضد الأبناء.

5. الأعراف الاجتماعية والثقافية: بعض المجتمعات تبرر استخدام العنف مع الأطفال بحجة “التأديب” أو “الرجولة” أو “الهيبة الأبوية”.

ثالثاً: الآثار المدمرة للعنف الأسري على الأطفال

إن الطفل الذي يتعرض للعنف لا يتوقف تأثيره عند حد الألم الجسدي أو الخوف اللحظي، بل ينعكس ذلك على كيانه بأكمله، كما يظهر في:

• الاضطرابات النفسية: القلق، الاكتئاب، اضطراب ما بعد الصدمة، التبول اللاإرادي، فقدان الثقة بالنفس.

• صعوبات التعلم والتأخر الدراسي: الأطفال المعنفون غالباً ما يظهرون أداءً أكاديمياً ضعيفاً بسبب عدم الاستقرار النفسي.

• سلوكيات عدوانية أو انسحابية: إما أن يتحول الطفل إلى شخص عدائي يقلد ما تعرض له، أو ينكفئ على ذاته خوفاً من الآخرين.

• الانعزال الاجتماعي: يفقد الطفل قدرته على تكوين علاقات سليمة مع أقرانه والمحيطين به.

• الانحراف في مرحلة المراهقة: كثير من الأطفال المعنفين ينتهجون سلوكيات متمردة، مثل الإدمان أو الجنوح، كرد فعل على الظلم الذي تعرضوا له.

رابعاً: دور المؤسسات القانونية والتربوية

لا يمكن مواجهة ظاهرة العنف الأسري ضد الأطفال دون تدخل شامل من كافة المؤسسات المجتمعية، على رأسها:

• القوانين الرادعة: من الضروري تفعيل القوانين التي تُجرم العنف الأسري وتعاقب مرتكبيه، وتوفير قنوات آمنة للتبليغ عن الانتهاكات.

• المؤسسات التعليمية: المدارس لها دور محوري في رصد مؤشرات العنف عبر المعلمين والمرشدين الاجتماعيين.

• الخدمات الاجتماعية: تقديم الدعم النفسي للأطفال الضحايا وإنشاء مراكز لإيواء الأطفال في حالات الخطر القصوى.

• المجتمع المدني: الحملات التوعوية ونشر ثقافة التربية الإيجابية تلعب دوراً جوهرياً في تغيير العقليات وتخفيف الظاهرة.

خامساً: ضرورة التربية الإيجابية

التربية الإيجابية تقوم على التواصل الفعّال بين الوالدين وأطفالهم، وعلى احترام الطفل ككائن مستقل له حاجاته ومشاعره. وتشمل هذه التربية عدة عناصر:

• الاستماع للطفل وتفهم مشاعره.

• وضع حدود واضحة دون عنف.

• تعزيز السلوك الإيجابي من خلال المكافأة والثناء.

• الابتعاد عن العقاب الجسدي نهائياً.

• تقديم القدوة الحسنة في التعامل والسلوك.

سادساً: آثار العنف على بنية المجتمع

حين يُربى جيل من الأطفال تحت العنف والقمع والإهانة، فإن المجتمع بأسره يصبح مهدداً. فالطفل الذي يفقد الأمان والاحترام في منزله، سيكون في الغالب مواطناً غير متزن نفسياً، يفتقر للثقة بنفسه، أو يصبح بدوره شخصاً عنيفاً، مما يرسّخ دورة متكررة من العنف والعنف المضاد. هذا يؤدي إلى:

• تزايد معدلات الجريمة.

• هشاشة الروابط الاجتماعية.

• انخفاض الإنتاجية الفردية.

• تفكك الأسر وانتشار السلوكيات المنحرفة.

سابعاً: مسؤوليتنا الجماعية

السكوت عن العنف الأسري، أو تبريره تحت مسميات دينية أو تقليدية، يعد مشاركة ضمنية في استمراره. لا يكفي أن نرفض العنف في بيوتنا فقط، بل ينبغي أن نكون حاضرين كشهود حين نعلم أو نشهد عنفاً يُمارس على أبناء غيرنا. فالمسؤولية هنا جماعية: الأسرة، المدرسة، الحي، الدولة، وسائل الإعلام، كلٌّ مسؤول بدرجة ما.

ثامناً: العنف الأسري في ضوء المواثيق الدولية

تنص اتفاقية حقوق الطفل التي أقرتها الأمم المتحدة سنة 1989، والتي وقّعت عليها أغلب الدول العربية، على حماية الطفل من جميع أشكال العنف والإهمال وسوء المعاملة. ورغم أن كثيراً من الدول سنت قوانين تتماشى مع هذه الاتفاقية، إلا أن التطبيق العملي غالباً ما يبقى ضعيفاً بسبب العوائق الاجتماعية والثقافية.

تاسعاً: التغيير يبدأ من داخل الأسرة

ليس من الضروري أن ننتظر تغييرات حكومية أو إصلاحات قانونية كبرى حتى نبدأ بحماية أبنائنا. التغيير يبدأ من الأسرة نفسها. كل أب وأم يجب أن يراجع سلوكياته، أن يسأل نفسه: هل أربي أم أؤذي؟ هل أعاقب أم أنتقم؟ هل أمنح طفلي فرصة ليكون أفضل، أم أفرض عليه أن يكون نسخة عني؟

التحول نحو تربية إنسانية متزنة لا يتطلب إمكانيات مادية ضخمة، بل وعياً حقيقياً بأن الطفولة لا تتكرر، وأن ما يزرع في نفس الطفل لن يُمحى بسهولة. فإما أن نربي جيلاً صالحاً يحمل مشاعل الخير والعدالة، أو نُسلم العالم لضحايا مشوهين سيعيدون تدوير العنف ذاته.

المصادر:

1. الأمم المتحدة – اتفاقية حقوق الطفل، 1989

2. منظمة الصحة العالمية – تقرير “العنف ضد الأطفال: وقائع وأرقام”، 2023